سورة الصافات - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الصافات)


        


{فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96)}
قوله تعالى: {فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ} قال السدى: ذهب إليهم وقال أبو مالك: ذهب إليهم.
وقال أبو مالك: جاء إليهم عليهم.
وقيل: عدل. والمعنى متقارب. فراغ يروغ روغا وروغانا إذا مال. وطريق رائغ أي مائل.
وقال الشاعر:
ويريك من طرف اللسان حلاوة *** وويروغ عنك كما يروغ الثعلب
فقال: {أَلا تَأْكُلُونَ} فخاطبها كما يخاطب من يعقل، لأنهم أنزلوها بتلك المنزلة. وكذا {ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ} قيل: كان بين يدي الأصنام طعام تركوه ليأكلوه إذا رجعوا من العيد، وإنما تركوه لتصيبه بركة أصنامهم بزعمهم.
وقيل: تركوه للسدنة.
وقيل: قرب هو إليها طعاما على جهة الاستهزاء، فقال: {أَلا تَأْكُلُونَ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ}. {فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} خص الضرب باليمين لأنها أقوى والضرب بها أشد، قال الضحاك والربيع بن أنس.
وقيل: المراد باليمين اليمين التي حلفها حين قال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ} [الأنبياء: 57].
وقال الفراء وثعلب: ضربا بالقوة واليمين القوة.
وقيل: بالعدل واليمين ها هنا العدل. ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45- 44] أي بالعدل، فالعدل لليمين والجور للشمال. ألا ترى أن العدو عن الشمال والمعاصي عن الشمال والطاعة عن اليمين، ولذلك قال: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات: 28] أي من قبل الطاعة. فاليمين هو موضع العدل من المسلم، والشمال موضع الجور. ألا ترى أنه بايع الله بيمينه يوم الميثاق، فالبيعة باليمين، فلذلك يعطى كتابه غدا بيمينه، لأنه وفى بالبيعة، ويعطى الناكث للبيعة الهارب برقبته من الله بشماله، لأن الجور هناك. فقوله: {فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} أي بذلك العدل الذي كان بايع الله عليه يوم الميثاق ثم وفى له هاهنا. فجعل تلك الأوثان جذاذا، أي فتاتا كالجذيذة وهي السويق وليس من قبيل القوة، قاله الترمذي الحكيم {فاقبلوا إليه يزفون} قرأ حمزة {يزفون} بضم الياء. الباقون بفتحها. أي يسرعون، قاله ابن زيد. قتادة والسدي: يمشون.
وقيل: المعنى يمشون بجمعهم على مهل آمنين أن يصيب أحد آلهتهم بسوء.
وقيل: المعنى يتسللون تسللا بين المشي والعدو، ومنه زفيف النعامة.
وقال الضحاك: يسعون وحكى يحيى بن سلام: يرعدون غضبا.
وقيل: يختالون وهو مشي الخيلاء، قاله مجاهد. ومنه أ، خذ زفاف العروس إلى زوجها.
وقال الفرزدق:
وجاء قريع الشول قبل إفالها *** ويزف وجاءت خلفه وهي زفف
ومن قرأ {يزفون} فمعناه يزفون غيرهم أي يحملونهم على التزفيف. وعلى هذا فالمفعول محذوف. قال الأصمعي: أزففت الإبل أي حملتها على أن تزف.
وقيل: هما لغتان يقال: زف القوم وأزفوا، وزففت العروس وأزففتها وازدففتها بمعنى، والمزفة: المحفة التي تزف فيها العروس، حكي ذلك عن الخليل. النحاس: {ويزفون} بضم الياء. زعم أبو حاتم أنه لا يعرف هذه اللغة، وقد عرفها جماعة من العلماء منهم الفراء وشبهها بقولهم: أطردت الرجل أي صيرته إلى ذلك. وطردته نحيته، وأنشد هو وغيره:
تمنى حصين أن يسود جذاعة *** وفأمسى حصين قد أذل واقهرا
أي صير إلى ذلك، فكذلك {يَزِفُّونَ} يصيرون إلى الزفيف. قال محمد بن زيد: الزفيف الإسراع.
وقال أبو إسحاق: الزفيف أول عدو النعام.
وقال أبو حاتم: وزعم الكسائي أن قوما قرءوا {فأقبلوا إليه يزفون} خفيفة، من وزف يزف، مثل وزن يزن. قال النحاس: فهذه حكاية أبي حاتم وأبو حاتم لم يسمع من الكسائي شيئا.
وروى الفراء وهو صاحب الكسائي عن الكسائي أنه لا يعرف {يزفون} مخففة. قال الفراء: وأنا لا أعرفها. قال أبو إسحاق: وقد عرفها غيرهما أنه يقال وزف يزف إذا أسرع. قال النحاس: ولا نعلم أحدا قرأ {يزفون}. قلت: هي قراءة عبد الله بن يزيد فيما ذكر المهدوي. الزمخشري: و{يزفون} على البناء للمفعول. و{يزفون} من زفاه إذا حدأة، كأن بعضهم يزف بعضا لتسارعهم إليه. وذكر الثعلبي عن الحسن ومجاهد وابن السميقع {يرفون} بالراء من رفيف النعام، وهو ركض بين المشي والطيران. قوله تعالى: {قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ} فيه حذف، أي قالوا من فعل هذا بآلهتنا، فقال محتجا: {أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ} أي أتعبدون أصناما أنتم تنحتونها بأيديكم تنجرونها. والنحت النجر والبري نحته ينحته بالكسر نحتا أي براه. والنحاتة البراية والمنحت ما ينحت به. {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ} {ما} في موضع نصب أي وخلق ما تعملونه من الأصنام، يعني الخشب والحجارة وغيرهما، كقوله: {بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} [الأنبياء: 56] وقيل: إن {ما} استفهام ومعناه التحقير لعملهم.
وقيل: هي نفي، والمعنى وما تعملون ذلك لكن الله خالقه. والأحسن أن تكون {ما} مع الفعل مصدرا، والتقدير والله خلقكم وعملكم وهذا مذهب أهل السنة: أن الأفعال خلق لله عز وجل واكتساب للعباد.
وفي هذا إبطال مذاهب القدرية والجبرية.
وروى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إن الله خالق كل صانع وصنعته» ذكره الثعلبي. وخرجه البيهقي من حديث حذيفة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن الله عز وجل صنع كل صانع وصنعته فهو الخالق وهو الصانع سبحانه» وقد بيناهما في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.


{قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)}
قوله تعالى: {قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً} أي تشاوروا في أمره لما غلبهم بالحجة حسب ما تقدم في {الأنبياء} بيانه ف {قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً} تملئونه حطبا فتضرمونه، ثم ألقوه فيه وهو الجحيم. قال ابن عباس: بنوا حائطا من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعا، وملأوه نارا وطرحوه فيها.
وقال ابن عمرو بن العاص: فلما صار في البنيان قال: حسبي الله ونعم الوكيل. والألف واللام في {الْجَحِيمِ} تدل على الكناية، أي في جحيمه، أي في جحيم ذلك البنيان. وذكر الطبري: أن قائل ذلك اسمه الهيزن رجل من أعراب فارس وهم الترك، وهو الذي جاء فيه الحديث: «بينما رجل يمشى في حلة له يتبختر فيها فخسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة» والله أعلم. {فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً} أي بإبراهيم. والكيد المكر، أي احتالوا لإهلاكه. {فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ} المقهورين المغلوبين إذ نفذت حجته من حيث لم يمكنهم دفعها، ولم ينفذ فيه مكرهم ولا كيدهم.


{وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101)}
فبشرناه بغلام حليم فيه مسألتان: الأولى: هذه الآية أصل في الهجرة والعزلة. وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام، وذلك حين خلصه الله من النار {قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي} أي مهاجر من بلد قومي ومولدي إلى حيث أتمكن من عبادة ربي فإنه {سَيَهْدِينِ} فيما نويت إلى الصواب. قال مقاتل: هو أول من هاجر من الخلق مع لوط وسارة، إلى الأرض المقدسة وهي أرض الشام.
وقيل: ذاهب بعملي وعبادتي، وقلبي ونيتي. فعلى هذا ذهابه بالعمل لا بالبدن. وقد مضى بيان هذا في الكهف مستوفى. وعلى الأول بالمهاجرة إلى الشام وبئت القدس.
وقيل: خرج إلى حران فأقام بها مدة. ثم قيل: قال ذلك لمن فارقه من قومه، فيكون ذلك توبيخا لهم.
وقيل: قاله لمن هاجر معه من أهله، فيكون ذلك منه ترغيبا.
وقيل: قال هذا قبل إلقائه في النار. وفية على هذا القول تأويلان: أحدهما: إني ذاهب إلى ما قضاه علي ربي.
الثاني: إني ميت، كما يقال لمن مات: قد ذهب إلى الله تعالى، لأنه عليه السلام تصور أنه يموت بإلقائه في النار، على المعهود من حالها في تلف ما يلقى فيها، إلى أن قيل لها: {كُونِي بَرْداً وَسَلاماً} فحينئذ سلم إبراهيم منها.
وفي قوله: {سَيَهْدِينِ} على هذا القول تأويلان: أحدهما {سيهدين} إلى الخلاص منها.
الثاني- إلى الجنة.
وقال سليمان ابن صرد وهو ممن أدرك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لما أرادوا إلقاء إبراهيم في النار جعلوا يجمعون له الحطب، فجعلت المرأة العجوز تحمل على ظهرها وتقول: اذهب به إلى هذا الذي يذكر آلهتنا، فلما ذهب به ليطرح في النار {قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي}. فلما طرح في النار قال: حسبي الله ونعم الوكيل فقال الله تعالى: {يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً} [الأنبياء: 9 6] فقال أبو لوط وكان ابن عمه: إن النار لم تحرقه من أجل قرابته مني. فأرسل الله عنقا من النار فأحرقه.
الثانية: قوله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} لما عرفه الله أنه مخلصة دعا الله ليعضده بولد يأنس به في غربته. وقد مضى في آل عمران القول في هذا. وفى الكلام حذف، أي هب لي ولدا صالحا من الصالحين، وحذف مثل هذا كثير. قال الله تعالى: {فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} أي أنه يكون حليما في كبره فكأنه بشر ببقاء ذلك الولد، لأن الصغير لا يوصف بذلك، فكانت البشرى على ألسنة الملائكة كما تقدم في هود. ويأتي أيضا في الذاريات.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8